تناقضات ذاكرة مغتربة ...

30.1.12

مذكرات بغداد - اليوم الثالث


صافحت أبا نؤاس ...
يومي الثالث في بغداد فضلت قضائه كسائحة في مدينة لا أعرف عنها شيئا ... اخذت الكاميرا و قنينة الماء و حصنت نفسي بمعطف و لفاف و انطلقت في شوارع بغداد مع عمي ( دليلي السياحي) .. و ذهلت!
كنت دائما ارفض ان اختصر بلدا واحدا في كلمة او جملة .. ارفض ان اختصر العراق او فلسطين او افغانستان بأعداد شهدائهم .. ارفض ان اختصر هذه البلدان المنكوبة بكمية دمائها النازفة و بقطع كهربائها المبرمج و غير المبرمج لسبب بسيط جدا .. لا شيء ابدا في هذه البساطة.
فلا أفغانستان تختصر بارقام ضحاياها , ولا فلسطين بمجازرها و مستوطناتها ولا بغداد بحواجزها الكونكريتية.
اليوم فقط عرفت حقيقة الجرائم التي تخلفها لنا الحروب باختصار بلدان و شعوب باكملها بارقام على صفحات تاريخنا.... اليوم فقط حين صافحت أبا نؤاس.
بدأت جولتنا الصباحية من تمثال أبا نؤاس متربعا على كرسي مقابل لمدينة كان يعشق الحياة فيها .. كان يعشق خمرها ونسائها, صوت عودها و كتابة الشعر فيها .. كان يعشق دائها ودوائها ..كان يعشق شبابها.
تمثال ربما لا يحكي لك كل هذا عندما تشاهده .. لكنه يجلس هناك رغم القصف اليومي و جرعات الألم المتكررة .. يجلس واقفا! يجلس مقاوما! يجلس مبرهنا لنا ان بغداد لم تمت بعد وانها على الرغم من تطرفها احيانا ..لا زالت تسمح لأبا نؤاس ان يواجهها و يكتب فيها شعرا تصدح اصواته في ارجاء أحيائها ... فكيف لي ان لا اصافح تمثالا يقول لي كل هذا عن مدينة اصبح الموت سيدها و مولاها !
...
المحطات التي تلت هذه الرحلة عبر شباب بغداد كانت برهانا على تقدم العمر فيها , على الرغم من انها لا زالت تقاوم كشابة في العشرين الا ان شوارعها و بناياتها و فنها المعماري, تماثيلها و ساحة تحريرها و حتى المتغزلين فيها  كلها تصرخ فينا  انها ... تكبر .
ولانني اقدر فن العمارة و علاقته الطردية بعمر المدينة او شبابها فكان لا بد لي ان الاحظ ان عمران بغداد القديم , ساحاتها , ميادينها و تماثيلها .. تكبر! فترى فيها ابنية لا زالت كما هي .. لا زالت شناشيل بغداد تطل عليك محملة برائحة صبية في العشرين و بشال شعرها الذهبي المتطاير تحاول ان تستصرخ احدا ما ليعمرها .. ولا احد يسمعّ
ما زالت هناك شوارع تسمع فيها صوت عربات ملكية تقل ناسا في طريقهم الى حفلة ليلية في قاعة رقص .. تستصرخك ايضا ان تلتفت اليها و تكتب عنها .. ثم تصلحها !

ما زالت هناك حدائق تضم تماثيلا لشهرزاد و شهريار يتحادثان في نقاش ابدي عن قصة لا تنتهي .. يستجدون نظرة من عيني سائح ما عاد يهتم بنهاية القصة .. ويتمنى لو ان شهرزاد ما كانت ابدا حتى لا يزعجه احد بحكاية خيالية لا مكان لها في جدول اعماله المزدحم.

و لا زال هناك ناس مثلي .. يخترعون قصصا و تاريخا و حتى جغرافيا لأشخاص و تماثيل و بنايات , لاشجار و انهار و عيون ..عسى ان تدلهم هذه القصص على شباب مدينة ضاع مع اشعار ابا نؤاس .. ولم يعد شيء شاهدا عليه . حتى تأتينا صفعة تاريخية لتذكرنا بالشهود .. فكانت محطتي الاخيرة في جامعة بغداد.
...

جامعة بغداد التي تأسست عام 1957 ميلادية تقف شاهدة علينا كلنا .. ذلك القوس الذي ظل واقفا في كل الحروب التي اثقلت كاهل بغداد و اهلها .. ذلك القوس الذي قصف ولم ينقصف ! ذلك البلسم الذي يبرد جرح مدينة لا تزال تنزف , حدثني اليوم.
اخبرني عن احوال طلابه و اساتذته .. عن مقاومتهم .. عن حبهم للقلم و العلم .. عن حبهم لبغداد و ايمانهم بانها – رغم التناقضات- لا تزال شابة .
اخبرني عن بنايات جامعة عريقة ظلت واقفة لاكثر من نصف قرن و لا زالت بكامل بهائها! ان اردت عزيزي القاريء ان تكتشف فن العمارة في بغداد فما عليك الا ان ترتب رحلة سياحية – كما فعلت- الى جامعة بغداد و تأكد بانك سترى ما يسرك.
حدثني القوس عن معنى الانتصار .. و كيف لقوس واحد لا يعيره احد الاهتمام خرج اجيالا و بنى ماضي بغداد و حاضرها و سيحدد مستقبلها... كيف لقوس واحد استطاع ان ينتصر على بوش الاب و كلينتون و بوش الابن ! كيف لقوس واحد ان يقول لا! هل سمعت يا سيدي القاريء بقوس كهذا؟ انا تحدثت معه اليوم

قال لي باني على حق وان ابا نؤاس قد زاره يوما و صافحه كما فعلت انا .. واخبره بان لا يستسلم حتى يستمع الناس الى قصتهما معا .. و يخلدان معا .. و يكتبان معا .. كي يشربا فنجان قهوة على نهر دجلة وحتى متسامران عن فتاة زارتهما يوما و كشفت سرهما للعالم .. حتى وان باعدت بيننا دبابات و حروب و ذاكرة و شهداء !
الا انهما البداية و النهاية .. وكل الذي بينهما عابرا !


اليوم .. صافحت أبا نؤاس .. و تحدثت مع قوس!

تناقضات غربة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق