تناقضات ذاكرة مغتربة ...

29.1.12

مذكرات بغداد - اليوم الثاني


يا وطني يسعد صباحك ...
ثاني أيامي هنا في يوم قارس البرودة كذكرياتي البعيدة فيك يا حبيبتي لكنني أراك بعين مختلفة هذا اليوم ... أرى الأمل متجسدا في صوت خالتي الجميلة مكافحة من أجل ان تصنع لنا "ريوقا " فاخرا جدا وكأنه عيد ... حيث "ساندويتشات" المتنبي تتوسط المائدة و الشاي الحار ذو رائحة الهيل يدفي أي بردان .
اليس هذا كفاحا ايضا؟ وجبة رائعة في يوم بغدادي قارس البرودة منعدم النفط و الكهرباء؟
اراها تكافح يوميا من اجل عتبات حياتها الصغيرة من اجل اولادها و سيارتهم و ملابسهم و غدائهم .. من اجل زوجها و دفاتره و كتبه و أقلامه ... من أجل طلابها و رسمهم .. من اجل حياة و مستقبل احسن لكل من حولها وحولهم ! لأجل الجميع الا ... هي ! اليس هذا كفاحا ايضا؟
انا لست بصدد الحديث عن المتفجرات و الدبابات اليوم...لا فهذه امور عادية أصبحنا مخدرين نحوها ! هذه أمور سيؤرخها غيرنا! سيؤرخها من هم بصدد الحكم على الساسة و الحكومة و المعارضة! هذه امور سيحكم عليها المهتمين بتأريخ واقع البلد و ماسيه
لكن عاداتنا اليومية و عقبات حياتنا الصغيرة تستحق التأريخ ايضا ... تستحق الاحتفاء و الاحتفال ... تستحق الكتابة و تستحق القلم ... ساندويشة المتنبي و من اخترعها هي ارقى افطار صباحي يمكن ان يأكله شخص .. هي فرحة صباحية يومية لن يؤرخها من ينظر الى القنابل و المفخخات فقط ... لن يكتبها سوى الذي يدقق في حياة تفاصيله و في تفاصيل حياته .
...
أخلق هذا الجيل ليحيا حياتين مختلفتين؟ .. ليملك أكثر من ذاكرة و أكثر من عمر .. ليملك أكثر من شخصية ؟ أخلق هذا الجيل بأحلام صغيرة و بخيبات كبيرة ؟ هل اختلفنا بعد الاحتلال؟ ام كبرنا فقط؟ ام هرمنا بسبب الاحتلال؟ هل بغداد مكانا مناسبا لجيل بذاكرتين مثلنا؟
احلامنا الصغيرة و الكبيرة .. ألم نكن نحلم ببيت أكبر و سيارة احلى و ملابس أكثر؟ الم نكن نحلم بتذكرة سفر وطائرة؟ الم نكن نحلم بأغنية و رسالة بريدية و برنة هاتف في وقت متأخر ؟
صارت اكبر احلامنا حينها ... اصغرها الان
اصبحت احلامنا هذه مكانها مخدة نومنا فحسب ... اما احلامنا الاخرى , احلامنا "الكبيرة" فنبدا بها عندما نطيء خارج عتبة البيت ..أحلامنا الكبيرة هي وطن . نحلم بوطن البقاء فيه سهل ... نحلم بوطن يريدنا .. يحبنا .. نحلم بوطن يرانا حاضره و مستقبله لا مأساة عمره .
لسنا رومانسيين يا سيدي القاريء ... لا ... لكننا فقط نعيش واقعا "خياليا" بحتا  , "أكشنيا" بحتا  ! فلا الأماكن عادت نفسها و لا الزمان نفسه .. حتى الناس صاروا أكبرّ صاروا اكثر تشائما و اكثر يأسا ... صاروا اكثر "واقعية" من خيالنا البوليسي المرير!
شيئ واحد لا زال كما هو .. شيء واحد يطاردنا من حياتنا القديمة ..حياة قبل الاحتلال..انه الموت الذي يحصينا عددا وبددا! االذي يحبنا اكثر من حياتنا نفسها . منذ نصف قرن و هذا الموت يحصدنا ولا تكل مغازله كما قال تميم البرغوثي.
اراه لا يرضى بغيرنا فريسة .. يحبنا بكل الاحوال.. تحت حكم ديكتاتور او تحت الأحتلال او تحت مسمى حكومة لا تجد من تحكمه! و لا تحكم شيئا

لكننا – و الحق يقال – تعلمنا شيئا واحدا من حياتنا الثانية هذه ! المقاومة .. اصبحنا نقاوم الصواريخ و الاحتلال و الاحلام الصغيرة و الخيبات الكبيرة و الأوجاع التاريخية.
نقاوم من اجل حقنا في الحياة .. خالتي تقاوم كل بوم لتعلم جيلا جديدا الرسم ... لتعلمهم الحياة.
يقاوم اصدقائي كل يوم ايضا من اجل ان يدرسوا و يقرأوا .. أرايت شعبا يقاوم من أجل قلم .. ها هو امامك يا سيدي .. حتى القنابل لا تستطيع الوقوف بوجه ورقة وقلم رصاص !
يا وطني يسعد صباحك ما دام فيك ناس بقامة خالتي :)

تناقضات غربة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق